د.عاطف الشاعر- أكاديمي فلسطيني مقيم في لندن
تكاد لا توجد مدرسة فلسفية أو دينية أو علمية إلا وخاضت غمار تعريف معنى الإنسان وعلاقته في العالم الخارجي، سواءً كان ذلك على صعيد المجتمع والعالم كأفراد، أو البيئة والطبيعة ونواميسها. وحتى لا نغرق في تعريفات كثيرة ومتناقضة، سأركز على تعريفات محدّدة لها علاقة بما يحدثُ في غزة، وما أسميه هنا "سقوط الإنسان" كفكرة أخلاقية وسياسية واجتماعية وقانونية.
وبادئ على ذي بدء، يختلفُ مفهوم الإنسان في التراث الإسلامي عنه في الفلسفة اليونانية. فبينما حدّد الإسلام طبيعة الإنسان بماهيتين هما المادية والروحية وحثَّ على توازنٍ يحفظ لكليهما مكانه، ذهبَ أرسطو إلى أن الإنسان هو مواطن المدينة، وبالتالي هو عضوٌ في جماعة يحكمه العقل ورأي الأكثرية، وهذا تعريفٌ فلسفي وسياسي معاً. وأما أفلاطون فقد ذهبَ إلى معنى تجريدي أكثر وهو أن الإنسان هو ما في باطنه العقلي خصوصاً وما في البيئة وما بينهما حدٌّ، فهما إن التقيا، الطبيعة الخارجية والطبيعة الداخلية، التقيا وهماً أو بالمقاربة، ولا يوجد تقارب بين الشيء الخارج والإنسان، تقارباً تاماً، وينطبق هذا على الرياضيات والموسيقى وكل العلوم المجردة. هناك حجابٌ بين الشيء وباطن الإنسان الفردي أو الجمعي، وهو حجابٌ يتم الولوج إليه بواسطة نظريات وأفكار واشتقاقات تساهم في الفهم والتحليل، ولكن لا شيء يمثلُ الشيء إلا بالمقاربة والالتحام الفكري أو الاستنباط الاشتقاقي مع مادة العالم الخارجي.
أقولُ كلّ ما سبق لأنَّ عالمنا الخارجي وماهيتنا الروحية والمادية وحضارتنا المدنية تنحدر في قاعٍ سحيق تهوي بالإنسان تحتَ أي معنى وأي قيمة كانت، وتتباعد المسافات بين كل هذه الثنائيات.
بهذا فإن كل التعريفات العقلانية والروحانية والحسيّة تتلاشى وتصبحُ بلا معنى أمام فاجعة وفداحة الاستهتار المتكرّر بحياة الإنسان الذي نشهدها في فلسطين على يدِ الشرذمة الصهيونية وأعوانها المجرمين في العالم الغربي وغيره.
والإنسان قبل كلّ شيء قيمة، قيمة تتجلى من خلال التواصل السليم والنوايا والحسنة والأمان النفسي والعاطفي تجاه النفس وتجاه الآخرين. أما انزلاق الإنسان الذي نمرّ به هذه الأيام فهو نتاج سياسة ماحقة ساحقة مدفوعة بأسلحة قادرة على إنهاء الإنسان والبشرية في وقتٍ قصير. فالحضارة التي أتت لكي تدخل الإنسان عمليّة من الترويض والتعايش مع الطبيعة والتغلب على أهوالها الممكنة تتحولُ أمام أعيننا إلى أدوات قاتلة تقتلُ الحجر والشجر، والأهم الإنسان في فلسطين، وتتفرج باقي الإنسانية وكأنها أمام فيلم لا تستطيع إيقاف مشاهدته مهما زادت قسوته وبشاعته.
الإنسانية التي أصلها الإنسان أينما وجد تترنح تحتَ وقعِ عناد وجريمة قادة أمثال ترامب ونتنياهو والتي تجمعهم الصهيونية القاتلة كونها تطبعُ الجريمة، تطبعها وتجعلها اعتيادية بحيث يمرُّ عليها الناس خارج دائرة الاستهداف الآنيّ مرور المستنزفين من بشاعة المجرمين، ولا تغيّر تظاهراتهم وما يفعلوه من شيء أمام عناد وجبروت أمثال هؤلاء من القادة ومنظوماتهم العسكرية المجرمة. تتكدسُ جثّث الضحايا من الأبرياء الأطفال والنساء والشباب والشيوخ، ولا شيء يحدث، ولا شيء يتغير. تتمعمقُ الجريمة ويزدادُ المجرمُ حصانة ومنعة وجبروتاً وفتكاً. ويتم تشويه اللغة بكافة معانيها ومزاياها، فبدلاً من أن تكونَ أداة مهمة للتواصل وصنع السلام والأمان، تصبحُ وعاءً لجريمة أفكار من قبيل "السلام من خلال القوة" وهو شعارٌ يرفعه ترامب ونتنياهو وغيرهم من الأشرار، فالقوة هي كلّ ما يعتمدوا عليه للسيطرة والسطو والعربدة والجريمة اللامتناهية، وأما "السلام" فهو كلمة تؤكد براءتها من ألسنة هؤلاء القتلة.
إذن الإنسان يسقطُ، وأعني بالسقوط، سقوط كلّ القيم والمعاني التي تبقى على ضوابط تحافظ وتحسب حساباً لآدميّة البشر وحقهم في الحياة والحرية.
وسقوط الإنسان في مكانٍ ما بهذه الطريقة المتلفزة والواضحة هو سقوط للإنسان في كلِّ مكان، وخصوصاً الإنسان الذي يرزح تحت حكم أنظمة ساقطة أخلاقياً وحسيًا.