محمد عمر

في خطوة قد تذكّرنا بأحلك فصول التاريخ، حيث يُختزل الإنسان إلى مجرد رقم في معادلة اقتصادية جافة، أعلنت الحكومة البريطانية عن "إصلاحات" جديدة لنظام الهجرة، وهي في حقيقتها "سياسة نكران"، ملبسة بشعارات براقة كـ"استعادة السيطرة" و"حماية الاقتصاد". لكن ما بين الكلمات الشعبوية تكمن الحقيقة المرة: هذه السياسات ليست إلا صفعة في وجه من جاؤوا إلى هذا البلد حاملين أحلامهم وآمالهم، في حين أن مساهماتهم في بناء مجتمعهم الجديد كانت تتجاوز مجرد العيش – بل كانت مساهمة حقيقية في الاقتصاد والحياة اليومية لهذا البلد.

المهاجرون: ضحايا سياسة "النكران المنظم"
أولئك الذين يعتبرهم القرار عبئًا ليسوا أرقامًا تُضاف إلى حسابات الحكومة أو عبئًا على النظام الصحي والتعليمي. بل هم أناس قدّموا الكثير. دفعوا آلاف الجنيهات مقابل كل تأشيرة، وكل فحص طبي، وكل رسوم حكومية باهظة، ودفعوا تكاليف الحياة الباهظة من عرق جبينهم، من دون أن يطلبوا شيئًا سوى فرصة للعيش بكرامة. هم الذين يبذلون جهدهم في العمل، ويزودون الاقتصاد البريطاني بالموارد البشرية التي لا غنى عنها. هم من يساهمون في بناء مجتمعاتهم الجديدة، ومنهم من يعمل في القطاعات الحيوية مثل الصحة والرعاية الاجتماعية، حيث يشكلون جزءًا لا يتجزأ من القوى العاملة في هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS).
لكن بدلاً من أن تُشكر هذه الجهود، يُدان أصحابها. قرار إلغاء تأشيرات الرعاية الاجتماعية، ورفع الحد الأدنى للرواتب، ومضاعفة سنوات الحصول على الإقامة الدائمة وتقييد فترة إقامة الخريجين، هي مجرد إجراءات تنم عن قسوة وفهم مغلوط لمعنى "الاستفادة" و"المساهمة" في بناء الأمة.

الطلاب الدوليون: ضحايا سياسة "الاستنزاف الممنهج"
يدفع الطلاب الدوليون الرسوم الجامعية التي قد تصل إلى ثلاثة أضعاف ما يدفعه الطالب البريطاني، ولولا هذه الرسوم لكانت العديد من الجامعات ستعجز عن البقاء دونهم. فهم يساهمون بمليارات الجنيهات في الاقتصاد، دون أن يتوقعوا سوى الفرصة لبناء مستقبل أفضل لأنفسهم ولعائلاتهم.
لكن للأسف، بمجرد أن يتخرج هؤلاء الطلاب ويصبحون جزءًا من المجتمع البريطاني، يُعاملون كـ"غرباء". برسالة واضحة: "ادفع لنا، ثم غادر". هذا ليس مجرد ظلم اقتصادي، بل هو طرد قاسي للأمل، وإغلاق في وجه أولئك الذين يمكنهم أن يكونوا محركًا حيويًا للاقتصاد البريطاني. فهم مؤهلون من جانب اللغة ويتمتعون بالمستوى المطلوب، وهم من درسوا في نظامهم التعليمي الذي من المفترض أنه عالي الجودة، وبالتالي فهم رافد قوي للاقتصاد البريطاني.

خطاب "الغرباء": بريطانيا ليست جزيرة معزولة
أخطر ما في هذا القرار هو الخطاب السياسي الذي يعزف على وتر "الغرباء". هذا الخطاب يتجاهل الحقائق التاريخية التي لا يمكن إنكارها: بريطانيا بُنيت من قبل العديد من الأشخاص من مختلف أنحاء العالم، وأُسس المجتمع البريطاني اليوم تعود جزئيًا إلى إسهامات المهاجرين. من مهندسي الثورة الصناعية إلى أولئك الذين كانوا في الصفوف الأمامية في خدمة الصحة العامة خلال الجائحة. كيف سيكون انعكاس هذا الخطاب على مستوى المجتمع؟ إنه يغذي العنصرية ويزرع في النفوس النظرة بأن المهاجرين هم سبب المشاكل، وأنهم عقبة أمام تقدم البلد وازدهاره. بينما الواقع عكس ذلك. فهو ليس إلا خطابًا سياسيًا مفلسًا، باحثًا عن شماعة لتعليق فشله عليها، وافتقاره للحلول المبتكرة.
حتى لو زعمت الحكومة أن هذه الإصلاحات تهدف إلى تقليص "الاعتماد على العمالة الأجنبية"، فالحقيقة أن بريطانيا بحاجة إلى هؤلاء العمال الذين يقدمون أكثر من مجرد وقت وجهد. فلا يمكن لبريطانيا أن تستغني عن العمالة المهاجرة.

العنصرية والخطاب المثير للانقسام
لكن أخطر ما في هذا القرار هو الخطاب السياسي الذي يعزز العنصرية. بعض الكلمات والمصطلحات التي يتم استخدامها من قبل السياسيين، مثل تلك التي يروج لها ستارمر ومن يدعمه، تعمل على تأجيج مشاعر الكراهية والتمييز داخل المجتمع. بدلًا من أن يسعى هؤلاء لصياغة خطاب يعزز الوحدة والتعاون، هم يطلقون لغة تُغذي العنصرية وتعمق الانقسامات الاجتماعية.
إن هذا النوع من الخطاب يجب أن يُرفض تمامًا، ويجب على الحكومة وعلى المواطنين البريطانيين أن يتخذوا موقفًا واضحًا في مواجهة هذا الخطاب الضار. يجب أن يتوقف السياسيون عن تقديم المهاجرين كـ"أعداء محتملين" ويجب أن يتم تحذيرهم من استخدام مصطلحات تقود إلى تعزيز الفروق بين الناس بدلاً من العمل على تعزيز تماسك المجتمع. بريطانيا هي أرض الفرص، ولا يمكن لأي حكومة أو حزب سياسي أن يسمح لنفسه بالمساهمة في نشر خطاب من شأنه أن يقسم المجتمع بدلًا من توحيده.

مقترحات للتطوير والدمج الأفضل
لكن من جهة أخرى، يمكن النظر في تعديلات ومقترحات بناءة لتحسين الوضع بدلاً من تأجيج الخلافات. على سبيل المثال، يمكن تحسين برامج تأهيل اللغة والاندماج بشكل أكثر فعالية. بدلًا من تجاهل اللغة والتواصل، يمكن للحكومة أن تساهم في برامج تأهيلية تهدف إلى إدماج المهاجرين بشكل أفضل في المجتمع، عبر دورات اللغة وبرامج تعلم الثقافة المحلية. المهاجرون جاءوا إلى هنا بحثًا عن حياة أفضل، وهم يحملون رغبة حقيقية في تحسين مهاراتهم وإثراء المجتمع البريطاني بما تعلموه من ثقافات وتجارب.
إن مسؤولية الحكومة في هذه الحالة تكمن في تقديم الدعم المناسب للمهاجرين ليتمكنوا من الاندماج بنجاح، بما في ذلك تحسين فرص تعلم اللغة الإنجليزية في بيئة داعمة تسهم في تعزيز التواصل بين جميع فئات المجتمع. كما أن الحكومة يمكنها التركيز أكثر على "النوع" وليس "العدد" في الهجرة، عبر دراسة أفضل لاحتياجات السوق وضمان أن من يأتون إلى هذا البلد قادرون على ملء الوظائف المطلوبة.

سياسة ضيقة الأفق وعواقبها بعيدة المدى
‎قيل " أن توقد شمعة خير من أن تلعن الظلام ألف مرة "، هذه الإصلاحات لا تعدو كونها محاولات ترقيعية تفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية. بدلاً من معالجة الأسباب الجذرية للأزمة، مثل نقص الاستثمار في تدريب القوى العاملة المحلية أو تحسين ظروف العمل، تواصل الحكومة الحالية اتباع سياسة قصيرة النظر تستهدف المهاجرين ككبش فداء بدلاً من المساهمة في إيجاد حل حقيقي.
التاريخ يعلّمنا أن الدول التي تحاصر نفسها بأسوار عالية تكتشف في النهاية أنها قد دفنت نفسها بيدها. كانت بريطانيا دائمًا مكانًا للفرص والانفتاح والتنوع. فهل سنشهدها اليوم تغلق أبوابها في وجه أولئك الذين منحوا لها الكثير، أم ستظل كما كانت: أرضًا تحتضن الأحلام وتعزز النمو؟

التالي ورقة بيضاء ومستقبل رمادي