محمد عمر - منتج ومخرج
في ذروة الجرائم الإسرائيلية الجارية في غزة، تُعلن بعض الحكومات الغربية، وفي مقدمتها بريطانيا، اتخاذ خطوات تُشبه ما قد يبدو "صحوة ضمير متأخرة"، فصرّحت لندن على لسان وزير خارجيتها بتجميد مفاوضات التجارة الحرة مع إسرائيل، وفرض عقوبات على عدد محدود من المستوطنين، كما أدانت تصريحات بعض الوزراء الإسرائيليين، واصفة إياها بـ"الفاحشة" و"غير الأخلاقية". هؤلاء أنفسهم كانوا يروّجون، دون انقطاع، لخطابات عنصرية وتحريضية خلال مجريات الحرب المستمرة.
كانت أبرز التحولات في لهجة لندن، تصريح وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي في 20 مايو 2025، الذي قال فيه إن ما يحدث في غزة "لا يمكن تبريره أخلاقيًّا"، واصفًا دعوات التهجير والتطهير العرقي بأنها "بغيضة وخطيرة".
لكن الواقع لا يُمحى بالبيانات. فحين تبدأ الإدانة بعد تسعة عشر شهرًا من حرب إبادة موثّقة، وبعد آلاف الشهداء والمجاعات المحاصِرة، فإن السؤال لا يصبح فقط: "لماذا الآن؟" بل: ما الدور الذي لعبته بريطانيا فيما سبق؟ هل كانت بريطانيا، عن قصد أو تقصير، شريكًا سياسيًّا أو لوجستيًّا في المسار الذي أفضى إلى هذا الواقع الدموي؟ وهل تأخرت في اتخاذ خطوات ملموسة تمنع وقوع كارثة إنسانية كان يمكن التنبؤ بها منذ الأيام الأولى للحرب؟
إن ما يجري في غزة اليوم ليس نتاج "نزوة" زعيم متطرف وحكومة متطرفة يقودها نتنياهو، إنما جريمة ممنهجة، تمارسها دولة بكامل مؤسساتها السياسية والعسكرية، وتُرتكب على مرأى ومسمع العالم. فتاريخ العلاقة البريطانية الإسرائيلية ــ لا سيما خلال الحرب الحالية ــ يطرح تساؤلات جدية حول الشراكة غير المباشرة في استمرار هذه المأساة.
منذ اليوم الأول، لم تكن المملكة المتحدة في موقع الحياد. فالحكومة البريطانية قبلت ــ تصريحًا أو صمتًا ــ بتصريحات مثل ما قاله وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بأنهم "يتعاملون مع حيوانات بشرية". قبلت بسياسات العقاب الجماعي، من قطع الكهرباء والماء، والبترول إلى الحصار الكامل على الغذاء والدواء، بحق أكثر من مليوني إنسان. لم تتخذ بريطانيا موقفًا واضحًا عندما كانت صور قصف المستشفيات والمخيمات تتصدر الشاشات، ولم تستخدم نفوذها السياسي لفرض وقف فوري لإطلاق النار.
هل كان هذا الموقف ناجمًا عن رهان سياسي على انهيار غزة؟ أم عن إيمان بأن هذه الجرائم يمكن تبريرها تحت شعار "الدفاع عن النفس"؟ أم أن القلق الحقيقي الذي بدأ يظهر الآن سببه فشل الرواية التي تم تسويقها منذ 7 أكتوبر، وصمود شعب غزة خلافًا لكل التوقعات؟
في المقابل، لم يكن الشارع البريطاني صامتًا. بل خرج مئات الآلاف في لندن ومدن أخرى، لشهور متواصلة، وما زالت، في مسيرات ضخمة تطالب بوقف الإبادة. رُفعت أصوات كثيرة من داخل البرلمان وخارجه، ومن منظمات حقوقية وجامعات، رفضًا لما يُرتكب بحق الفلسطينيين. لكن تلك الأصوات لم تجد آذانًا صاغية في داونينغ ستريت، بل جوبهت أحيانًا بالشيطنة، والاتهام بـ"معاداة السامية"، وفرض قيود على التعبير، وحتى ملاحقة من يرتدي الكوفية أو يرفع العلم الفلسطيني. بل إن بعض الجامعات والمؤسسات الأكاديمية شهدت تضييقًا على الأساتذة والطلبة الذين عبّروا عن مواقف داعمة لغزة، في انتهاك واضح لقيم الديمقراطية والحرية الأكاديمية التي لطالما افتخرت بها بريطانيا.
الجدل لا يقتصر على الشارع، بل طال البرلمان البريطاني نفسه، حيث تزايدت الدعوات لفرض حظر شامل على تصدير السلاح إلى إسرائيل، والاعتراف بدولة فلسطين. في هذا السياق، ورغم أن لامي قال: "المملكة المتحدة لن تتخلى عن حل الدولتين... ولكي يعيش الفلسطينيون في دولتهم، في كرامة وأمن، وبدون احتلال"، إلا أن الواقع السياسي يفضح التناقض: بريطانيا التي صوتت في بعض المرات لصالح قرارات تدعم الحق الفلسطيني في إقامة دولة، امتنعت عن التصويت في قرارات حاسمة مثل الاعتراف بالدولة الفلسطينية، خلافًا لما قامت به دول أوروبية كإسبانيا والنرويج وأيرلندا، التي أعلنت الاعتراف الرسمي بفلسطين.
وحتى العقوبات المعلنة ــ تعليق محادثات التجارة الحرة، وفرض إجراءات محدودة على مستوطنين ــ جاءت تحت ضغط الرأي العام، وليس بدافع قيمي خالص. بل إن العقوبات لم تشمل المسؤولين السياسيين والعسكريين الذين يقودون العدوان، ولا الشركات المرتبطة بمنظومة الاحتلال.
من جهة أخرى، لا يمكن إغفال دور جزء كبير من الإعلام البريطاني في تبني روايات أمنية اختزلت الصراع في "أزمة رهائن"، وجرّدت الفلسطينيين من إنسانيتهم، وقلّلت من فظاعة ما يتعرض له المدنيون في غزة. لقد ساهمت تلك الروايات في تهيئة الغطاء النفسي والأخلاقي لاستمرار الجرائم، وغابت التغطية المنصفة لواقع القصف، والتجويع، والتهجير الجماعي.
لذا، فإن مجرد تعليق اتفاق تجاري أو انتقاد خطاب متطرف لا يُعدّ كافيًا لتبرئة سجل معقّد من التواطؤ أو الصمت. المطلوب ليس "توبة دبلوماسية"، بل محاسبة تاريخية.
يجب أن يُطرح سؤال المسؤولية بشجاعة: ما مدى علم الحكومة البريطانية بطبيعة الأسلحة التي زوّدت بها إسرائيل؟ هل راقبت كيفية استخدامها؟ هل تواطأت بالصمت أو التبرير في وجه أدلة موثّقة على ارتكاب جرائم حرب؟ وهل تستطيع بريطانيا ــ كدولة أسست كثيرًا من القواعد القانونية الدولية ــ أن تتنصّل من التزاماتها الأخلاقية والقانونية؟ ما نحتاجه هو عملية محاسبة حقيقية، تبدأ من تقييم دور الحكومات الغربية في تمكين هذه الكارثة، ولا تنتهي إلا بإعادة النظر في كامل منظومة العلاقات التي مكّنت من استمرار هذا النمط من العنف والإفلات من العقاب.
إن غزة اليوم، الجريحة والمحاصَرة، لم تعد فقط كاشفة لوجه إسرائيل، بل كاشفة لوجه العالم بأسره. إما أن يكون هذا الوجه في مرآة التاريخ ملطّخًا بالدماء، أو مغسولًا بالحقيقة والعدالة.